لكل مدينة وجهٌ وشخصية، وروحٌ أيضًا تختلف من مدينةٍ الى أُخرى، كنت حريصاً على الاستمتاع بما امتازت به تلك المدن والمناطق التي أزورها.. لما أجد من متعة في استكشافها والتَّنقل فيها، وقد أتاح لي عملي السابق في المنافذ الحدودية أن أزور عدداً من المناطق السُّعودية الَّتي بعضها لو لم أنتقل لها موظَّفًا؛ لم أزرها سياحةً، مع استحقاقها ولكن الإعلام لم يسلَّط الضوء عليها، لذلك لا نعرف عنها إلا اسمها، وما يُتصدَّر لنا من أخبارها في الصحف.
الدَّهشة الأولى لمصافحة شخصيَّةُ مدينةٍ، هي الأحساء التي قرأتُ عنها قبل ذلك، وسمعتُ من الأباء عن رحلات الأجداد لها حيث كان الكيل منها والجلب إليها؛ وهي مدينة تاريخيَّة، وواحة زراعيَّة، وسوقٌ تجاري، وميناءُ بحري “العقير”.
دخلتُها في الصباح الباكر، وأول ما عبق في رئتي نسيمها عندما استنشقته. وشهقت شهقة رداد الروح عندما عبعب أكسجينها في شراييني، وشعرت براحة ومودة لمعرفتي المسبقة بها، ثم استكشفتها لاحقًا بعد التجول في سوقها التاريخي المسمى القيصريَّة، وبمزارعها وأحيائها وشوارعها، فصار لتجوالي فيها قاعدةٌ لأيِّ منطقة أزورها؛ بأن أقصد أسواقها القديمة، ومساجدها، ومنجزاتها الحضارية الحديثة، ثم فنادقها إلى مقاهيها.
ومنها تابعتُ التَّنقُّلِ إلى نجران، ثم عسير، وبعدها جازان، ولكلٍّ منهنَّ قصة عشتُها، حيث أُقدِم على المنطقة وليس لي أي صلات اجتماعية تربطني بأهلها، فأضطر للترفيه عن نفسي عطلة نهاية الأسبوع بالتَّجول فيها بناءً على القاعدة السابقة، ومع الوقت تعرَّفتُ على أناسيِّها، وعاداتهم وتقاليدهم، وآدابهم.
يمكنني أن أوضِّح ذلك باختصار؛ بأنَّ ثقافة الجنوب السعودي متنوعة ومتعددة؛ بدأً من تعدد الفنون الشعبية، وليس انتهاءً بتنوع السفرة الغذائية، تدلُّ على كرمِ أهلها، وحبهم للحياة ببساطتها، علاوةً على ذلك الجغرافيا والمناخ اللذان تمتازان بهما عن سائر المملكة، يليها أزياء أهلها، وما لا يُحصى من الفسيفساء الديمغرافية والانثربولوجيا.
قبل مغادرتي الجنوب لم أستطع إخفاء دهشتي للمرة الثانية؛ بمشاهدة مدينة فيفا من الأرض! كان الموقف مهيباً حقًا، فحين اقتربنا لنصل أسفل جبالها، بدت لي بيوتها البيضاء كأنَّها قناديلٌ معلَّقةٌ في جبلٍ من زمرُّدٍ خالصٍ، وكان السَّحاب الممدود على قمم الجبال يحجب البيوت تارةً، ويكشف أجزاءً منها تارةً أُخرى، مما يسحر الألباب. وبعد ذلك صعدنا.. رأيتُ ذلك السحاب الذي كان للتو فوقنا، بدقائق معدودة كان تحتنا؛ فأنشدتُ طرباً بسحر ما أرى “فوق هام السحب ياأغلى ثرى” وبينما نحن في سيارتنا كأنها تتأرجح بين مرتفعاتها ومنخفضاتها؛ تخيَّّلتُ عربات التلفريك تمر أمامي من قمة إلى أُخرى، فهي من وجهة نظري الوسيلة الأنسب لتضاريسها، والأكثر ملائمةً للتنقل بديناميكية مرنة.
ثمة مدنٌ تشكَّلت هويتها من شخصيةِ وأسلوبِ باني نهضتِها وقائدُ مسيرتها؛ مثل الرياض التي ارتبطت بأميرها سابقًا الملك سلمان حفظة الله الذي عاصر نموها من مدينة صغيرة حتى أوصلها إلى عاصمة عالمية، وقد قضي زهرة شبابه في خدمتها، وامتزجت شخصيته بتصميمها وهندستها، فانعكس ذوقه بإضفاء جاذبيَّةٍ خاصَّةٍ على جمالها وإبراز محاسنها.

ولأنه طُبع اسمها في قلبه حبًا فقد طبع بصمته أيضا على هويتها، ولِمَا لا وقد تابع تطوُّرَها وتوسُّعها على مدى خمسة عقود، كان أميرًا عليها وساهرٍا على رعايتها حتى اقترنت الرياض بسلمانها، وارتباطه الوجداني برياض نجده التي أعطاها هيبة ملكية، والتي بدورها منحت بألقها كلَّ مواطنٍ دفعة اعتزازٍ، وعلوَّ كعبٍ، حين يتحدث عن عاصمة وطنه للآخرين. وكيف صقل العرب جوهرةً في عمق الصحراء ينافس بها عواصم الشَّرق والغرب، وغدتْ علامةً فارقةً مسجَّلة للسعودية في مسيرة النهضة العربية. وأذكر أنني أصدرتُ أول مجموعة أدبيَّة لي وقد تزامن ذلك مع اختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية لعام 2000م، تجرأتُ حينها بأن أهديت الإصدار المتواضع إلى قلب وطني النابض بالحياة اعتزازًا وفخرًا بها كمنجز وطني وارف الاخضرار.
من الوجهات التي يممتُ وجهي إليها؛ هي الشمال وتحديدًا منطقة الحدود الشمالية حيث ثقافة خط التابلاين الذي أُنشئ على امتداده المدن، وحولت رجل الصحراء إلى مشارك فعّال في صناعة نقل النفط، والاستمتاع بالمدنية الأمريكية في أطراف الصحراء؛ من خدمات صحيَّة وترفيهيَّة؛ من مطاعم وسينما وملاعب كرة قدم وسلَّة، ومطار يوفر رحلات دولية خاصة لموظفي أرامكو تمكِّنهم من التَّنقُّلِ في “الويكند” من طريف إلى بيروت.
هناك مدن تتشابه وتشعر أنها توأم يتقاسمون بطابع واحدٍ، وهو ما شعرت به في زيارتي لسكاكا الجوف التي تشبه بريدة.. نعم بريدة العاصمة الإدارية لمنطقة القصيم ومنطلق رحلات العقيلات التجارية قديما تتعدَّد أوجه الشبه فيها، لكنَّ أبرزها طابعها الزراعي وحقولها الاحترافية، وإن كان في الشمال زيتون وفي الوسط نخيل ثم في سوقيهما الشعبيين المتداخلين مع شجرتيهما الرمزيتين، وأخيرًا في الكثبان الرملية التي تحاذيهما. رأيت في الجوف الوجه الآخر للعملة الذهبية.
وطالما ذكرت القصيم فالجديرُ بالذكر أن أشير إلى ميزةٍ في شخصية عنيزة التي تكاد أن ترى علامتها الشيخ ابن عثيمين يتجول في ميادينها في سماحته، وعلمه وتشم عبق القهوة التي وصفها شاعرها الشهيرالقاضي وقد كانت عنيزة وفيَّةً لرموزها في تسمية شوارعها بأسمائهم، فهذا الأمير ابن سليم، وذاك الوزير ابن سليمان، وهناك السفير الشبيلي.
والشئ بالشئ يُذكر؛ فقد سعدت بوفاء محافظة المجمعة لابنها الأديب الوزير عبد العزيز التويجري بتسمية أحد شوارعها باسمه، وهو الذي بادلها حباً بأنَّ داره بالرياض تقع على شارعٍ باسم أحد أوديتها الشهيرة؛ وادي المشقر.
ما أثار شجون الكتابة عن شخصيات المدن وروحها هو خبرٌ قرأته في تويتر عن تسمية أحد شوارع جزيرة فرسان باسم أديبِها الشاعر إبراهيم مفتاح الذي دشَّن وضع اللوحة، والتقط صورة تذكارية بجانبها، وهو سعيد بذلك، وأحسبه عنوانًا ومعلِّمًا للجزيرة التي احتضنت أدبه، وزفرت بنفسه الإبداعيَّ الى كافة أرجاء الوطن، وآفاق الإبداع العربي، وتذكَّرتُ حينما زرت فرسان لم أجد بُدَّاً من لقاءه والاستمتاع بلألئ لسانه الذي ينطق شعرًا، وحديثًا عن التَّاريخ والتَّراث، وتوثيقه ذلك بمتحفه؛ فهو موسوعة فرسان وذاكرتها، وقد علَّقتُ على خبر التَّسمية؛ بأنَّ من الجميل أن يكرم الرمز وهو في تمام صحته وعافيته، فقد تعودنا للأسف أن لا يُكرم الأديب إلا حين يُفتقدُ صوته بين الأحياء.
إلى هنا أوشك الحبر المخصص لريشة القلم في هذا الشأن أن ينتهي، ولم تنتهِ التفاصيل بعد، وما أودُّ أن أكتبه بالقطرات الأخيرة؛ هو أنَّ الأنسان روح المدينة ونتاج فكره وان المدن الوفية هي التي تحمل ملامح سكانها وصفاتهم، وتخلِّد أسمائهم وتوثِّق سيرهم وتحفظ جهودهم في ذاكرتها عبر الأزمان.